روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | الحج.. رؤية مقاصدية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > الحج.. رؤية مقاصدية


  الحج.. رؤية مقاصدية
     عدد مرات المشاهدة: 2771        عدد مرات الإرسال: 0

نقطة مضيئة، في وسط الأرض، دعا إليها داع الإيمان، فهوت إليها القلوب، وبذلت للوصول إليها النفوس كل غال عليها ونفيس، وتهافتت إلى ساحاتها الأجساد، ساعية جادة، باكية خاشعة، معظمة مكبرة، تلبي النداء بالقول والعمل والبذل والعطاء والجهد والمشقة.. لكنه ينزل عليها بردا وسلاما وحبا وتعظيما وتكريما.

 الإسلام باق، والقرآن باق، والملة الحنيفية سائدة وسائرة، مهما حاربوه ومهما حاصروه، تلكم هي الرسالة التي يعلنها ذلك المؤتمر الإيماني الهادر.

 إنه ذات الموكب الذي أمر به النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم منذ قرون عديدة، يتكرر بحذافيره، تبعا لما أمر وشرع وبيّن وعلم.

 كما كان أصحابه الأنقياء الأشراف الأطهار يحيطون به، يحفظون أمانة الرسالة، ويضطلعون بالتبعة الثقيلة، حتى أوصلوها إلينا عبر القرون سليمة نقية، هاهو ذات السيل الأبيض، والفيض النوراني المتهادي، يحمل معه أرقى حملة تطهير عالمية من الذنب والغفلة والتقصير في حق الله، منيبين إليه، ساعين إلى مرضاته، رجاؤهم المغفرة والرضوان.

 

لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم من على عرفة في حجة الوداع، الإعلان العالمي الإسلامي الأكبر لحقوق الإنسان الحقة، لكنه إعلان صادق مصدق، يؤيده الوحي وتحيطه الحكمة الربانية التي لا يأتيها نقص ولا يعتورها خلل.

 

لقد أعلن أن الناس كلهم سواء، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى، ميزانا نقيا طاهرا، لا نزاع فيه بمال ولا بمكانة ولا بلون، ولا بعرق، بل بما يقر في القلوب حيث يستوي فيه الناس أجمعون، «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد». صحيح مسلم.

 

كما أعلن أن الأمن مكفول لكل المؤمنين، وأن الله قد أمّن أهل الإيمان والتوحيد، أمنا يبلغ دنياهم وأخراهم: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، إنما المؤمنون إخوة، لا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد». صحيح مسلم.

 

والناظر المتدبر لتلك الشعيرة العظيمة وذلك المؤتمر العظيم، ليدرك أنه إنما شرع لتتحقق منه مقاصد عليا، ومرادات سامية راقية، تحفظ جناب التوحيد، وتجمع الشمل، وتثبت قلوب المؤمنين على الإيمان.

 

مقصده الأول وغايته العليا تحقيق التوحيد وإعلاء شأن العبودية، ولما سمع التلبية الصحابي جابر بن عبد الله قال: (أهل بالتوحيد).. فابتدأ بشعار التوحيد في هذا المؤتمر الأكبر وكأنه إيذان بأنه العلامة الأولى والراية المتقدمة في تلك العبادة الربانية الإيمانية العظيمة.

 

والآيات التي تحكي ابتداء البناء، تحكي بقضاء الله أن يقوم البيت على التوحيد ونبذ الشرك كأول مقومات له: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}، والمفسرون على أن تطهير البيت إنما هو تطهير من الشرك والوثن، وتخليصه للتوحيد والعبودية التامة.

 

كما وصف الله سبحانه الحجيج الملبين للنداء المستجيبين لأمر الله، القادمين إلى البيت العتيق في الآيات التاليات بأنهم: {حنفاء لله غير مشركين به}.

 

لذلك كان أول ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ثم عليا إلى مكة: «ألا يحج بعد اليوم مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» أخرجه البخاري.

 

كما ارتبط التوحيد بمناسك الحج، فجاء الذبح يشترط اسم الله عليه، إثباتا لربوبيته سبحانه إذ هو الذي رزقهم تلك الأنعام وإقرارا لألوهيته وتسليم العبادة- التي هي هنا الذبح والنسك- له سبحانه: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين}.

 

والسنن في الحج تشي بذلك المعنى بوضوح، فالقراءة في ركعتي الطواف يسن أن تكون بالإخلاص والكافرون، والذكر أثناء السعي يسن أن يكون التكبير والتهليل والتوحيد، وفي يوم عرفة قال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء يوم عرفه وأفضل ما قلت أنا والنبيون من بعدي لا إله إلا الله». أخرجه الترمذي.

 

كذا أمر بالإخلاص التام أثناء الحج أمرا متتابعا على كل وجه، فالسلوك كله لله والنسك كله لله والنية مخلصة له سبحانه لذلك لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يهل قال: «لبيك اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة» أخرجه ابن ماجه.

 

قال ابن رجب: (ومما يجب اجتنابه على الحاج وبه يتم بر حجه ألا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة، ولا فخرا ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجه، ويستكين ويخشع لربه).

 

ويأتي مقصد تعظيم شعائر الله وحرماته كمقصد مرجو مدعو إليه من أداء تلك الشعيرة العظيمة، فقد بينت الآيات ذلك المعنى بينما القرآن يتحدث عن تلك الفريضة وفي سياق بيان شأنها وقدرها والمقصود منها، فقال سبحانه: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه}، وقال سبحانه: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}.

 

وحرمات الله كل ما له حرمة شرعية، وأمر باحترامه شرعا سواء أكانت عبادة أو منسكا أو حرما، وتعظيمها هو حبها وإجلالها وأداؤها على الوجه الذي أمر به مقبلا جادا مستحضرا الإخلاص والتقى، وشعائر الله هي أعلام الدين الظاهرة ومنها مناسك الحج والبدن والهدايا، وتعظيمها القيام بحقها كما ينبغي.

 

وتعظيم الشعائر والحرمات لا يصدر إلا من القلوب السليمة النقية التقية المريدة وجه الله ورضاه وعاقبة الخير، المعظمة له سبحانه الموقرة لجلاله، قال سبحانه: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}.

 

يقول ابن القيم: (وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت).

 

إن المقصود استحضار القلب وانتواء الإخلاص وإرادة وجه الله سبحانه وتعظيم أمره ونهيه وأداء العبادة على وجهها ما يمكن منه استلزام التقوى والعمل الصالح وصحة أداء النسك، قال سبحانه: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}.

 

كما يأتي مقصد الطاعة والانقياد والاستسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم كمقصد ظاهر كذلك من مقاصد الحج، فالحاج يأتي المناسك ويزورها وينتقل بينها، وقد لا تبين له منها الحكم والمعاني، فيبقى له دوما معنى الانقياد والعبودية والتسليم، والاقتداء بنبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم، فهو يطوف ويرمي ويذبح ويحلق وإمامه في ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحج كما حج، ويقف حيث وقف، ويسلك سلوكه ويدعو دعاءه ويذكر ذكره الذي علمه.

 

والروايات الصحيحة تدلنا على مدى اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبمجرد أن علموا أنه خرج حاجا «فلم يبق أحدٌ يقدر أن يأتي راكبًا، أو راجلًا، إلا قدِم» رواه النسائي، «كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله» رواه مسلم.

 

كما أنه صلى الله عليه وسلم ظل يؤكد على اتباعه في مناسك الحج والتعلم منه قائلا: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه» رواه مسلم.

 

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «فنظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب، وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومـن خلـفه مثـل ذلـك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به» رواه مسلم.

 

ولم تكن كلمات عمر بن الخطاب أمام الحجر الأسود إلا تطبيقا لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك). متفق عليه.

 

قال الحافظ ابن حجر: (وفي قول عمر هذا، التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه) الفتح.

 

وكان عبد الله بن عمر إذا استلم الحجر قال: (اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك وسنَّة نبيك) أخرجه الطبراني.

 

ويقول ابن القيم: (إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله _سبحانه_ عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها بها، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت). الصواعق المرسلة.

 

والتوبة والإنابة والتقى وتطهير النفس من مساوئها وأدرانها مقصد آخر من مقاصد الحج، قال سبحانه: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، قال الجصاص في أحكام القرآن: (جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون مراد الله تعالى، فيكون المحرم منهيا عن السباب والمماراة في أشهر الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي، فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي. وهي وإن كانت محظورة قبل الإحرام، فإن الله نصَّ على حظرها في الإحرام تعظيما لحرمة الإحرام، ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا من غيرها).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». متفق عليه.

 

وقد جعل الحسن البصري من علامات قبول الحج: أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة.

 

ومما يدل على ارتباط التزكية بالتطهير أنه سبحانه لما نهاهم عن إتيان القبيح حثهم على فعل الجميل فقال سبحانه: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.

 

ثم أمروا أن يرفعوا ذكر الله سبحانه في كل وقت، فأمروا بالتلبية من بدايات الإحرام وطوال أيامه، وما تلبث التلبية أن تتوقف حتى يبدأ ذكر آخر هو التكبير والتهليل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله». أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود.

 

الكاتب: خالد رُوشه.

 المصدر: موقع المسلم.